ترند24 - في تحفة سينمائية فريدة بعنوان “أناشيد آدم”، ينسج المخرج العراقي المبدع عدي رشيد سردية بصرية آسرة.
تمزج ببراعة بين الواقعية السحرية والتأملات الفلسفية العميقة.
يقدم الفيلم رؤية استثنائية لتأثير مرور الزمن على الروح الإنسانية والمجتمع بكل تعقيداته.
وقد حصد فيلم “أناشيد آدم” إشادات نقدية واسعة وجوائز مرموقة، من بينها جائزة اليسر لأفضل سيناريو في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي.
ومؤخرًا، تألق الفيلم في مهرجان أفلام سعودية.
حيث نال جائزة النخلة الذهبية لأفضل فيلم روائي طويل، مؤكدًا بذلك قيمته الفنية الرفيعة.
بعيدًا عن السرد التقليدي المباشر، يقدم رشيد تأملاً سينمائيًا نادرًا في مفاهيم جوهرية مثل الزمن، الطفولة النقية، والصمود الإنساني في وجه التآكل الجماعي.
يبني رشيد عالمه السينمائي ببطء وتأمل عميق، ليطلق مشروعًا فنيًا يحفر عميقًا في الذاكرة الجمعية للإنسان العراقي، ويمتد صداه ليلامس الأسئلة الكبرى حول مصير الإنسان في هذا الوجود.
تنطلق القصة بمشهد رمزي بالغ الدلالة: في عام 1946، يشهد طفلان، آدم وشقيقه علي، طقس غسل جثمان جدهما.
يمثل هذا الحدث أول لقاء حقيقي مع فكرة الموت، تاركًا بصمة خفية لكن عميقة في وعي آدم الطفولي.
في تلك اللحظة الفارقة، يتخذ آدم قرارًا فطريًا يبدو غير منطقي للوهلة الأولى: أن يرفض النمو.
ففي عالم يبدو فيه الكبر مرادفًا للانخراط في دوائر الفقد والتدهور، يختار آدم الطفولة كملاذ آمن، كثورة صامتة ضد جبروت الزمن.
لكن ما هو الثمن الباهظ الذي سيدفعه آدم مقابل هذا القرار؟
زمن داخلي متجمد في مواجهة زمن اجتماعي متسارع:
يبني رشيد أطروحة فلسفية عميقة حول مفهوم الزمن الداخلي الذاتي مقابل الزمن الاجتماعي الخارجي، مستعرضًا تأثير الأزمات العراقية المتلاحقة عبر سنوات مفصلية (1946-1952-1964-1981-2014).
يعيش آدم خلال هذه الحقبات الزمنية خارج معادلة الزمن الاجتماعي. فبينما يكبر الآخرون، يتزوجون، يشيخون، ويموتون، يظل آدم ثابتًا، متجمدًا داخل لحظة البراءة الأولى، وذلك بعد صدمته العميقة بمفهوم الموت الذي تجسد في جثمان جده.
في المقابل، ترى “إيمان” ابنة عمه، وشقيقه “علي”، و”إنكي” الراعي وصديق آدم المقرب، في آدم نعمة وهدية إلهية في هذه القرية القاسية التي تعصف بها عواصف الغبار، وهو بدوره غير راغب بالتخلي عن هذه الحالة الفريدة.
يذكرنا هذا التشبث بالطفولة بمفهوم الزمن الداخلي عند الفيلسوف هنري برجسون، الذي يرى أن الزمن الحقيقي هو ذلك الذي يُعاش داخليًا، لا الذي يُقاس بمقاييس الساعات والأيام والسنوات الخارجية.
تكشف العلاقات التي يرسمها الفيلم بين آدم وأخيه علي، وبينه وبين ابنة عمه إيمان، مفارقة الزمن المتباين.
فعلي يكبر وينخرط في الدورات الاجتماعية التقليدية، بينما تحاول إيمان أن تمد جسرًا بين عالم الطفولة وعالم الكبار، لكنها تدرك تدريجيًا أن المسافة بينهما شاسعة.
كل محاولة للتواصل مع آدم تصطدم بجدار الزمن المتجمد الذي يحيط به.
بهذا، تمثل الشخصيات، على الرغم من محيطها الخارجي المتغير، تجسيدًا للصراع الأبدي بين الزمن والإنسان، والرغبة في النضج والتطور مقابل الرغبة العميقة في الحفاظ على البراءة والنقاء، والاستسلام لواقع الزمن أو مقاومته عبر الصمت العميق.
ومع استمرار نمو علي وابنه، يصبح الزمن الاجتماعي في سياق الفيلم بمثابة خيانة للروح.
فالنمو هنا ليس تقدمًا بل انحدارًا حتميًا نحو الموت والفناء.
لهذا، فإن اختيار آدم ألا يكبر لا يبدو مجرد قرار طفولي، بل موقفًا فلسفيًا عميقًا: رفض الانصهار في دورة الحياة التي لا تقود في نهاية المطاف إلا إلى الزوال.
بنية بصرية آسرة وتكوين صوتي مؤثر:
في أحد المشاهد المؤثرة، يُجبر آدم على مغادرة القرية. يناديه والده بحزم ويأخذه بعيدًا، بينما تئن والدته من بعيد، تصرخ باسمه وتحاول اللحاق به، لكن والده يزجرها ويهددها بعدم الاقتراب.
يُقاد آدم إلى مخبأ طيني، ويُدفع إلى غرفة ذات باب خشبي، ويُغلق عليه الباب بأمر من والده، الذي يهدده بعدم فك أسره ظنًا منه أنه ملعون، وأن لعنته ستحل على القرية وأهلها.
يقدم هذا المشهد المؤثر دون أي حوار أو تبرير لفظي، بل بلغة جسد معبرة تبرز الصراع بين البراءة والسلطة، والعقاب القاسي على رفض التكوين الطبيعي والانخراط في عالم الكبار.
تعكس السينوغرافيا هذا الصراع من خلال الألوان الترابية المهيمنة والضوء الخافت المتسرب إلى الغرفة الطينية المعتمة.
أما الصمت الذي يلف هذا المشهد فيعبر بقوة عن القمع الذي يتعرض له آدم وعجزه عن الاحتجاج.
اختار رشيد أن يتماهى مع فلسفة الثبات هذه من خلال لغة بصرية وصوتية بطيئة ومتوترة. المشاهد طويلة نسبيًا، حركة الكاميرا قليلة، والألوان يغلب عليها البني والترابي، وكأن كل شيء مغطى بطبقة خفيفة من غبار الزمن.
يلعب الصمت دورًا جوهريًا في الفيلم؛ فحين يتكلم الفيلم، فإنه يتكلم بلغة الرياح العابرة، بصدى الخطوات البعيدة، وبأنين الأبواب المتقطع.
لا شيء هنا يعبر عن الاستمرارية، بل عن شعور دائم بالضياع والعدم.
ليس المخرج عدي رشيد غريبًا عن كيفية تنفيذ أعماله السينمائية وطرح الأسئلة الكبرى من خلالها.
فمنذ تجربته السينمائية السابقة “تحت أنقاض بغداد”، كان واضحًا أن مشروعه الإخراجي يتجاوز مجرد توثيق الكارثة السياسية إلى استبطان الوجع الداخلي العميق للإنسان العراقي.
في فيلم “أناشيد آدم”، يخطو رشيد خطوة أبعد، مبتعدًا عن المباشرة والخطابية، ومتجهًا نحو سينما الفكرة، حيث تصبح الصورة نفسها معادلاً شعوريًا للزمن، وحيث تتكلم التفاصيل البسيطة بلغة تفوق الكلمات.
عاش “آدم” عبر هذه السنوات كاستعارة مكسورة لطفل عراقي، وربما لطفل بشري مطلق، رافضًا الامتثال لعنف التاريخ وجبروته.
اقرأ المزيد: نجوم هوليوود سطعوا في سماء الفن وتركوا مقاعد الدراسة بينهم جوني ديب وكاميرون دياز